ابيقور وكيف تكون سعيد -Epicurus
Written by Adel Elsherif
* المتعة والألم والبحث عن السعادة
* موقف أبيقور من الآلهة والحياة بعد الموت
* رسالة أبيقور إلى مينويسيوس
* لوكريتيوس ونظرية الذرات
المقدمة
"فخر الإغريق ومعلم إنساني كبير ترك فلسفة عملية كاملة ليس بعدها زيادة لمستزيد".
- يوسف حسين
أبيقور من الفلاسفة الإنسانيين الذين ساهموا في إثراء الفكر الإنساني وتحريره من الخرافات والخوف. هو فيلسوف يوناني وُلِدَ في جزيرة ساموس عام ٣٤١ ق.م، وتُوفّي عام ٢٧٠ ق.م، وعاش ٧٢ عامًا.
عاش أبيقور في فترة مليئة بالصراعات السياسية والاضطرابات، فكانت فلسفته بمثابة رد فعل على هذه الصراعات والدوجما الدينية. رغم ذلك، كان هناك مناخ من الحرية في أثينا، حيث كان أهلها يحضرون المسارح ويشاركون في المسابقات الرياضية، وكانت المدينة موطنًا للفلسفة. هذا المناخ مكّن أبيقور من تأسيس مدرسته الفلسفية عام ٣٠٦ ق.م في حديقة بأثينا. أصبحت الحديقة مكانًا للاجتماعات والدروس الفلسفية بينه وبين تلاميذه، حيث كانوا يتبادلون الطعام والعمل والدراسة معًا في جو يجسد فلسفته القائمة على أهمية الصداقة. كانت المدرسة مفتوحة للرجال والنساء وحتى العبيد.
للوصول إلى السعادة في فكر أبيقور، تحتاج إلى شيئين:
* الوصول إلى حالة من "أتاراكسيا" (ataraxia)، وهي الطمأنينة النفسية عن طريق التحرر من الخوف والقلق.
* الوصول إلى حالة "أبونيا" (aponia)، وهي التحرر من الألم الجسدي عن طريق الاعتدال، وتكوين الصداقات الحقيقية، والسعي وراء المتع الصغيرة والبسيطة.
هذا الكتاب هو محاولة لشرح فلسفة أبيقور العملية، وربما يجد القارئ فيه حلولًا للتغلب على القلق والعيش بسعادة وحكمة. كما يهدف إلى تصحيح الصورة المحرّفة عن هذا الفيلسوف الأخلاقي الذي صُوِّرَ على أنه لا يهتم إلا بالمتعة واللذات الحسية. سيتم توضيح فلسفته بصورة مختصرة، وترجمة إحدى رسائله العملية، والتعريف بتلميذه لوكريتيوس وكتابه "في طبيعة الأشياء".
المتعة والألم والبحث عن السعادة
الخير الأسمى عند أبيقور هو المتعة، والشر هو الألم. ولكن ما هي المتعة وما هو الألم؟ وهل يمكن أن نُفضِّل الألم على المتعة؟ وهل المتعة حسية فقط؟
أدرك أبيقور أن الإنسان يسعى إلى السعادة. قد نختلف في التفاصيل، لكننا نتفق على أن غالبية أفعالنا تحركها رغبتنا في السعادة، سواء كانت مادية كالأموال، أو غير مادية كالحب والمعرفة والراحة النفسية. كلنا يبحث عن شيء يجعله سعيدًا ويُبعد عنه الضرر أو الشر.
المتعة أو اللذة الأبيقورية
يقول أبيقور:
"المتعة هي الخير الأسمى لنا، وهي القاعدة الأساسية التي نحدد بها خياراتنا، لأنها مقياسنا للخير والشر. لهذا السبب، لا نختار كل متعة نصادفها، بل نرفض المتعة التي قد تسبب لنا المشاكل والضيق. وأحيانًا نختار الألم ونُفضّله على المتعة إذا كان هذا الألم يضمن متعة عظيمة بعد المعاناة."
المعادلة الأبيقورية النفعية تعتمد على حساب المتعة والألم عن طريق عوامل متعددة مثل:
* قوة المتعة والألم.
* مدة المتعة والألم.
* نسبة اليقين من المتعة والألم وتأثيرها على المدى البعيد.
على سبيل المثال، قد نرفض فترة قصيرة من المتعة مقابل فترة طويلة من الألم. تشير المعادلة الأبيقورية إلى أن الألم سيكون له تأثير أكبر على السعادة العامة مقارنة بالمتعة. لذلك، لا تجعل المتعة القصيرة تحرمك من المتعة الأكبر في المستقبل، ولا الألم الصغير الآن يمنعك من تجنب الألم الأكبر في المستقبل.
* مثال: التدخين متعة، لكنه سيؤذي صحتك على المدى البعيد، وهذا مؤكد علميًا. يمكن أن يجعلك مدمنًا تعاني نفسيًا وماديًا للأبد. لذلك، الشر هو الإفراط في التدخين، والخير هو التدخين باعتدال إن أمكن، أو تجنبه أساسًا.
قد يُفضِّل أبيقور العمل في مهنة يحبها على عمل يُدرّ دخلًا أكبر ولكنه يُكدِّر مزاجه، لأن المتعة الأبيقورية هدفها الأساسي هو السلام الروحي والجسدي. الإنسان الحكيم يهتم بـالجودة لا الكمية.
فيقول: "الحكيم يهتم بجودة الطعام لا بكميته، وبجودة وقته لا بطول مدته".
فالتعلم مشقة، ولكن بعده راحة. ولهذا قد يُفضِّل المشقة على الراحة من أجل عواقبها.
تنقسم المتعة أيضًا إلى نوعين من حيث الفعل:
* المتعة الإيجابية:
وهي التي تُكتسَب بالفعل، مثل الطعام والسفر والجنس؛ أي كل المتع التي تحتاج إلى فعل ينتج عنه متعة.
* المتعة السلبية:
وهي المتع التي لا تنتج عن فعل. فجسدك ليس في ألم الآن، فأنت في متعة ناتجة عن غياب الألم. عقلك ليس فيه قلق أو خوف، فأنت في متعة سلبية. فغياب الألم الجسدي والعقلي سبب كافٍ للاستمتاع والامتنان.
صنّف أبيقور الرغبات إلى أنواع حسب طبيعتها:
وفقًا لرسالته إلى مينويسيوس، قسّم أبيقور الرغبات إلى رغبات طبيعية ورغبات غير طبيعية.
* الرغبات الطبيعية:
* الرغبات الطبيعية الضرورية: مثل الحصول على الطعام والمأوى والنوم والصداقة، وهي ضرورية للحفاظ على حياة الإنسان.
* الرغبات الطبيعية غير الضرورية: مثل الجنس، فهي رغبة طبيعية مهمة للسعادة، لكن عدم تحقيقها لن يؤثر سلبًا على الحياة كما يحدث في حالة الطعام والمأوى.
* الرغبات غير الطبيعية: مثل الرغبة في الثروة الكبيرة أو امتلاك يخت أو قصر بملايين الدولارات. هذه الرغبات غير ضرورية ولا تؤثر أساسًا على الحفاظ على الحياة أو المتعة.
فيقول: "يمكننا تلخيص الحياة السعيدة في أن نجعل كل أفعالنا خالية من الألم والخوف، وأن نكتفي بما لدينا ولا نرغب في شيء لا نملكه. حينها، يكون الجسد والروح قد تم إشباعهما."
الصداقة أهم شيء في السعادة عند أبيقور
شدد أبيقور على أن الصداقة من أهم عناصر جلب السعادة. فقد كانت لها أهمية كبيرة في حياته، حيث كان يجمع أصدقاءه في حديقته ليستمتعوا بأوقاتهم. فقد قال:
"أفضل الطرق لضمان السعادة الدائمة هي اكتساب الأصدقاء".
الإنسان كائن اجتماعي يحتاج إلى البشر طوال حياته. كلمة "صديق" حاليًا فقدت معناها، وتُطلق على أي شخص تعرفه كنوع من أنواع المجاملة. غضب الفيلسوف سنيكا من صديقه لوشيوس لأنه قال له: "أرسلت رسالة مع صديقي، لكن لا تخبره بمحتواها".
عاتب سنيكا لوشيوس قائلًا: "كيف تقول إنه صديقك ولا تثق به؟ يبدو أنك لا تعرف معنى الصداقة."
سنيكا كان فيلسوفًا يُقال عنه رواقي، ولكن عندما تقرأ رسائله، تجد أنه متأثر بأبيقور ومعجب به، وكتب مقولاته أكثر من مقولات أي فيلسوف آخر.
الصداقة كلمة عظيمة. الصديق الحقيقي لا ينتظر منك مصلحة ولا تنتظر منه مصلحة، بل علاقة مبنية على الحب والاحترام والإخلاص والثقة في كل الأوقات.
يقول أبيقور: "ليس المهم هو مساعدة الأصدقاء المادية لنا، ولكن الشعور بالثقة بأن هناك صديقًا مخلصًا موجودًا بجوارك".
يؤكد بذلك أن الصداقة لا تعتمد على المصلحة المادية، بل على الدعم النفسي بين الأصدقاء.
الصداقة ليست فقط بين الرجل والرجل، بل يمكن أن تكون صداقة بين الرجل وزوجته، أو الرجل وسيدة. سمح أبيقور للسيدات بالالتحاق بمدرسته لتعلم الفلسفة والاستمتاع بالصداقة المبنية على الاحترام والإخلاص. لم يكن أبيقور الوحيد الذي سمح بالنساء والعبيد، بل غالبية مدارس الفلسفة القديمة مثل الفيثاغورية والرواقية فعلت ذلك.
عزيزي القارئ، إذا لم تثق في صديقك، فهو ليس حقًا صديقك. قبل أن تقبل صديقًا، يجب أن تحكم عليه جيدًا، ثم تثق فيه.
يقول الفيلسوف سنيكا:
"من أفضل مميزات الصداقة الحقيقية هي أن تفهم صديقك ويفهمك".
فالحب يمكن أحيانًا أن يجرحك، ولكن الصداقة الحقيقية دائمًا تنفعك.
يجب ألا تتوقف عن البحث عن صديق، مهما كان سنك أو مكانك. الصداقة هي من أفضل المتع في الحياة، والصديق الحقيقي هو من يريدك أفضل، لا أسوأ.
الصداقة مثل الوردة، تحتاج دائمًا إلى الرعاية لتصبح قوية. تواصل دائمًا مع أصدقائك.
أبيقور كان دائمًا يأكل مع أصدقائه. وعندما مرض في آخر حياته قبل موته، قال لمن حوله: "ما جعلني أحتمل ألم المرض هو الذكريات الجميلة مع الأصدقاء التي لم تفارقني".
موقف أبيقور من الآلهة والحياة بعد الموت
موقف أبيقور من الآلهة
أدرك أبيقور أن لا سبيل إلى السعادة إلا بالتخلص من الخوف غير المبرر من الآلهة. نصح صديقه مينويسيوس برفض الاعتقاد الشائع لدى العامة بشأن الآلهة التي يصورها البشر على أنها وحوش بشرية تتفوق في العنف والغضب والثأر والمكر على أعتى مجرمي اليونان.
في الواقع، لم يكن أبيقور ملحدًا، بل اعتقد أن الآلهة كاملة، خالدة، وسعيدة، ولا تريد شيئًا من البشر، كما هو الحال في تصور إله أرسطو "المحرِّك الذي لا يتحرك" أو إله إسبينوزا. اتفق أبيقور وإسبينوزا على أن الإله خالد ولا يتغير، ولكنهما اختلفا في ماهيته؛ إسبينوزا قال إن الإله هو المادة الوحيدة في الكون، أما أبيقور فاعتقد أن الآلهة منفصلة عن العالم. بينما اعتقد أرسطو وإسبينوزا في إله واحد، لم ينفِ أبيقور آلهة اليونان، بل نفى صفاتهم البشرية.
في رسالته إلى مينويسيوس، قال أبيقور: "العقل السليم يعترف بأن الآلهة هي كائنات حية، خالدة، كاملة. لذلك، يجب أن نرفض أي فكرة تتعارض مع خلودها وكمالها. أنا أؤمن فقط بما يتوافق مع خلودها وكمالها."
وقد استدل أبيقور على وجود الآلهة بالأحلام التي يحلم بها البعض، ويؤكد على أن أي قوة موجودة في العقل، فهي موجودة في الواقع. لم يكن يهتم بنفي وجود الآلهة، بل كان يرى أنها كاملة وغير متأثرة بأمور البشر.
نلاحظ أن غالبية الفلاسفة الذين وُصِفوا بالكفر لم ينكروا وجود الآلهة، ولكنهم رفضوا الأفكار الشائعة التي صورت الآلهة بصفات بشرية ومحلية واضحة. ونتيجة لذلك، تعرض بعض الفلاسفة للاضطهاد والتكفير على يد رجال الدين والحكام.
ينفي أبيقور تدخل الآلهة في شؤون البشر. فلو استجابت لدعوات البشر، فإنها لن تكون إلا سببًا لهلاك العالم، بسبب الدعاء المستمر والمتواصل على بعضهم البعض.
وقال لوكريتيوس تلميذ أبيقور في قصيدته "في طبيعة الأشياء": "هم يستمتعون بحياة خالدة وراحة كاملة، هم بعيدون عنا، لا يهتمون بشؤون البشر ولا بمعاناتنا، ولا يهتمون بفضائلنا، ولا حتى أفعالنا السيئة تثير غضبهم."
موقفه من الحياة بعد الموت
"الموت لا يعنينا، لأن عندما نكون، الموت لا يكون، وعندما يأتي الموت، لن نكون موجودين."
* أبيقور إلى مينويسيوس
الخوف من الموت هو شعور يشترك فيه جميع البشر، إذ يفكر الإنسان بالانتقال إلى المجهول وفقدان كل ما لديه. هو شعور صعب الاعتراف به، ومصدر خوف لأغلبية البشر.
أدرك أبيقور أن الخوف من الموت، خاصة عند المبالغة فيه، قد يعيق الإنسان عن العيش بسلام وسعادة. لم يعد أي شخص مات ليحكي لنا تجربته، ولذا فالموت لغز. علميًا، الموت هو توقف وظائف الجسم الحيوية نهائيًا. تصوراتنا عن ما بعد الموت تتأثر بالدين الذي ورثناه، ويحدده كذلك العصر والمكان الجغرافي.
في رسالته إلى مينويسيوس، يقول أبيقور: "عندما يأتي الموت، تتوقف كل الأحاسيس، فلا يوجد خير أو شر. يجب ألا يحتقر الحكيم الحياة ولا يجعل فكرة الموت تعيقه عن الحياة. الشخص الحكيم، كما يستمتع بجودة الطعام بدلًا من كميته، يجب أن يهتم بجودة الحياة، لا بطولها."
هنا يظهر أبيقور كفيلسوف متفائل، فالناس لا ينبغي لهم أن يرحبوا بالموت أو يفكروا بسوداوية. أبيقور يحثهم على أهمية الاستمتاع بجودة الحياة، ويشير إلى أن الرغبة في الحياة يجب أن تظل قوية بغض النظر عن العمر. ويضيف، مخاطبًا مينويسيوس: "من يقول إن دور الشاب هو أن يعيش جيدًا، ودور المسن هو أن يموت جيدًا، فهو حقًا غبي، لأن رغبة الحياة يجب أن تكون قوية في كل إنسان، بغض النظر عن عمره، وينبغي للناس أن يعيشوا حياتهم بشكل جيد ويموتوا بشكل جيد."
رسالة أبيقور إلى مينويسيوس
من أبيقور إلى مينويسيوس، تحياتي،
الحكمة ليس لها سن
لا تدع شخصًا يتباطأ في تعلم الحكمة وهو صغير، ولا يمل أو يتعب حتى لو كان كبيرًا في السن. فلا يوجد سن مبكر أو متأخر لصحة العقل والروح. وأن تقول إن موسم الفلسفة لم يأتِ بعد، أو تقول إنه من الماضي وانتهى، فكأنك تقول إن موسم السعادة ليس الآن أو لن يأتي أبدًا.
ولذلك، يجب على الكبير والصغير أن يسعى إلى الحكمة. فالأول يحتاجها ليظل شابًا في الأشياء الجيدة، والثاني بالرغم من صغر سنه سيصبح في نفس الوقت كبيرًا، لأن الحكمة ستجعله لا يخشى ما سيقابله في المستقبل.
السعادة هدف الحياة
يجب علينا أن نمارس الأشياء التي تجلب لنا السعادة. فإذا كانت السعادة حاضرة، فنحن لدينا كل شيء، وإذا كانت غائبة، فيجب أن نسعى بكل أفعالنا للحصول عليها. وتلك الأشياء لم أتوقف لحظة أن أُعلِّمها لك لتمارسها في عقلك وأفعالك وتضعها كأساس لحياة صحيحة وجيدة.
تصور أبيقور عن الآلهة
في البداية، يجب أن تؤمن بأن الإله (أو الآلهة) هو كائن حي، خالد لا يموت، سعيد وكامل في ذاته، كما اتفق العقل السوي للبشر على ذلك. ويجب ألا تنسب له أي صفة تتعارض مع كونه خالدًا لا يموت، وسعيدًا وكاملًا في ذاته. ففي الحقيقة يوجد الآلهة، ولكن ليس كما يعتقد الغالبية. ففكرة البشر عن الآلهة غير ثابتة.
فغير المتدين الحقيقي هو ليس من ينكر وجود الآلهة، ولكن من يوافق غالبية العامة في فكرتهم عن الآلهة الناتجة عن انطباعاتهم الخاطئة. فهم يظنون أن ما يحدث للأشرار هو انتقام من الآلهة، وما يحدث من خير للطيبين هو نعمة من الآلهة. فيُطلقون الصفات البشرية الخيّرة على الآلهة، ويتجاهلون ما يحدث عكس ذلك.
رأي أبيقور في الموت
عوّد نفسك أن تعتقد أن الموت لا يعنينا، فالخير والشر يتطلب إحساسًا ووعيًا، والموت هو لا وعي ولا إحساس. والفهم الصحيح بأن الموت لا يعنينا يجعل الحياة أكثر متعة، فنحن لن نضيف للحياة التفكير فيه وقتًا غير محدود، ولكننا سنقلل الوقت المهدور في تسوّل الخلود. فالحياة ستصبح خالية من الرعب لمن فهم أنه لا يوجد رعب في توقفها.
فالأحمق يخاف من الموت ليس بسبب الألم، ولكن بسبب فكرة الموت. فمهما كان سبب الموت، فهو لا يمثل إزعاجًا لنا عندما يحضر. فالتفكير في الموت وأسبابه يسبب ألمًا لا مبرر له. فالموت الذي يقولون عليه أسوأ الشرور هو لا شيء لنا.
"فنحن هنا، الموت ليس هنا، والموت عندما يكون هنا فنحن لن نكون هنا. فالموت لا شيء سواء للأحياء أو للموتى، للأحياء لأنه لا يوجد، وللموتى لأنهم ليسوا موجودين الآن".
ولكن في الحياة، يجب أحيانًا أن تفهم الناس أنه أسوأ شر -حتى لا يستهينوا بالحياة- وأحيانًا أخرى تختاره كراحة من شرور الحياة. فالحكيم لا يقلل من الحياة، وفي نفس الوقت لا يخاف توقفها. فالحياة والموت لا يشكلان أي مشكلة له. فالبشر يُفضِّلون جودة الطعام وليس فقط كميته، فالحكيم يجب أيضًا أن يهتم بجودة الوقت وجماله وليس فقط طوله.
وحذِّر من يقول إن الشباب يجب أن يعيش جيدًا، والكبير في السن يجد نهاية جيدة، فهو يهذي. لأن ليس فقط كل البشر يرغب في الحياة، ولكن الجميع يجب أن يتعلم أن يعيش ويموت جيدًا.
أبيقور يسخر من الفلاسفة المتشائمين
والأسوأ هو من يقول: "ياليتني ما أتيت للحياة فكان سيكون أفضل". ولكن هو جاء بالفعل، فلماذا لا يسرع إلى بوابات هادس (هادس هو ملك العالم السفلي)؟ فلو كان فعلًا صادقًا في كلامه، لماذا لا يخرج من الحياة؟ فهذا سهل له إذا كان يصدق كلامه فعلًا. أما إذا كان بغرض السخرية، فهذه حماقة، لأن من يسمعه لن يصدقه.
يجب علينا أن نتذكر دائمًا أن المستقبل ليس ملكنا بشكل كامل، فيجب علينا ألا نثق أنه سيأتي، ولا نيأس من أنه لن يأتي.
أبيقور وتقسيمه للرغبات
يجب أن نتأمل الفرق بين الرغبات. بعض الرغبات طبيعية ورغبات غير طبيعية، والرغبات الطبيعية تنقسم إلى رغبات طبيعية ضرورية ورغبات طبيعية غير ضرورية.
والرغبات الطبيعية الضرورية هي رغبات ضرورية لتجعلنا سعداء، وتجعل الجسم يرتاح، وتساعدنا على البقاء. ومن يعرف رغباته والفرق بينها، سيستطيع أن تكون لديه الحكمة لاختيار ورفض الرغبات ليضمن صحة جسده وسلامته النفسية.
فحياة سعيدة يمكن أن نلخصها في أن نجعل كل أفعالنا خالية من الألم والخوف، وأن نكتفي بما لدينا ولا نرغب في شيء لا نملكه. حينها، يكون الجسد والروح قد تم إشباعهما.
المتعة الهدف الأسمى للحياة
عندما نتألم من غياب المتعة، فقط نسعى إليها، فالمتعة هي الأساس لحياة سعيدة.
المتعة هي الخير الأسمى لنا، وهي القاعدة الأساسية التي نحدد بها خياراتنا، لأنها مقياسنا للخير والشر. لهذا السبب، لا نختار كل متعة نصادفها، بل نرفض المتعة التي تسبب لنا المشاكل والضيق. وأحيانًا نختار الألم ونُفضّله على المتعة إذا كان هذا الألم يضمن متعة عظيمة بعد المعاناة.
العواقب مهمة في اختيار المتعة أو تركها
على الرغم من أن كل المتع خير، فإننا لن نختار كل المتع. كما أن الألم شر، ولكننا لن نمنع كل الألم. فبعض الألم يقود إلى متعة، وبعض المتع تقود إلى الألم. فيجب أن تحسب قدر المتعة والألم في كل خيار، وتختار ما يناسبك. فكل الخيارات يجب أن تخضع لفحصنا وحكمنا.
فأحيانًا نعتبر الخير شرًا، والشر في المقابل خيرًا. فنحن نعتبر عدم الاعتماد على الظروف الخارجية -التي لا نتحكم بها- خيرًا عظيمًا. ليس دائمًا نعتمد على القليل، ولكن يجب أن نمتَنّ بالقليل لو لم يكن لدينا غيره.
المتعة البسيطة مهمة
فهؤلاء الذين لديهم أفخم المتع والرفاهية لا يحتاجونها. أنا مقتنع بأن الرغبات الطبيعية سهلة الحصول عليها، أما الرغبات التي ليس لها قيمة حقيقية، فصعبة الحصول عليها. فطعام بسيط يجلب لنا متعة مثل طعام فاخر، بمجرد أن تزيل ألم العوز. فحتى الماء والخبز يجلبان قمة السعادة لفم جائع.
يجب أن تعلِّم نفسك أن طعامًا بسيطًا يكفي لجعل جسدك صحيًا، ويجعلك تلبي احتياجاتك بدون كسل، ويمكنك أن تعيش جيدًا بلا خوف من القدر.
سوء فهم للمتعة وتصحيحه
عندما نقول إن المتعة هي الهدف الأسمى في الحياة، لا نقصد المتعة الجسدية والحسية، كما يعتقد بعض الجهلاء. فالمتعة معناها لدينا غياب الألم الجسدي والنفسي. فهي ليست شرب خمور متواصل، ولا علاقات جنسية، ولا أكل السمك والطعام الفاخر.
بل استخدام العقل للبحث عن عواقب اختيار شيء أو تجنبه، والتخلص من المعتقدات التي تكدر سلامنا النفسي. فبداية كل شيء جيد هي العقلانية. فأن تكون حكيمًا وتحكم بعقلك في كل شيء أفضل حتى من الفلسفة.
فمن التعقل تنبثق جميع الفضائل، لأننا لا يمكن أن نعيش حياة بها متع من غير أن نكون عقلانيين وشرفاء وعادلين. ولا يمكن أن نعيش حياة عقلانية وشريفة وعادلة بدون أن تكون حياة ممتعة. لأن الفضائل تهدف إلى جعل الحياة جميلة وغير منفصلة عنها.
لوكريتيوس ونظرية الذرات
تبنى أبيقور نظرية الذرات التي قدمها ديموقريطوس، واعتمد عليها في تفسير العالم المادي. فالذرات عند أبيقور هي البناء الأساسي للكون، وهي أبدية وغير قابلة للتدمير. كما أن حركة الذرات وتراصها وتشابكها تُفسِّر كل الظواهر الطبيعية. العالم يتكون من ذرات وفراغ. (مثال: سيارة تريد أن تتحرك تحتاج إلى فراغ، فالسيارة هي الذرة التي تتحرك في الفراغ).
بالإضافة إلى ذلك، استفاد أبيقور من نظرية الذرات في تفسير ظاهرة الموت وانتهاء الوعي. فعندما تتحلل الذرات المكوّنة للجسم البشري، ينتهي الوعي والحياة. وبالتالي، لا وجود لما بعد الموت أو حياة أخرى، طبقًا لفلسفة أبيقور.
يعود الفضل في نظرية الذرات إلى الفيلسوف ديموقريطس. يقول زيلر في كتابه "الفلسفة قبل سقراط" إن فكرة الذرات في الأساس تعود إلى أستاذ ديموقريطس وهو ليوكيبس، ولكن لا نعرف عنه الكثير. الفكرة انتشرت بشكل أكبر بفضل ديموقريطس.
نشر الفيلسوف كاسندي، الذي كان يتبع الفكر الأبيقوري، فكرة الذرات، واستفاد منها العديد من العلماء، بما في ذلك نيوتن، كما أشار جون ماسون في كتابه "لوكريتيوس".
كانت فكرة الذرات مهملة قبل أبيقور. كان لأبيقور تلميذ اسمه لوكريتيوس، وهو شاعر روماني اتبع المدرسة الأبيقورية. وُلِد في عام ٩٩ وتُوفّي في عام ٥٥ ق.م. كتب لوكريتيوس قصيدته "في طبيعة الأشياء" في أواخر حياته القصيرة التي عاش فيها ٤٤ عامًا فقط، ونقل كل ما علمه أبيقور من فكرة الذرات والفلسفة. كان ذلك حظًا جيدًا لأن كتب أبيقور لم تظهر بعد.
يقول جورج هادسيت في كتابه "لوكريتيوس وتأثيره": "لوكريتيوس، كعالم، سيفسر الظواهر الطبيعية بشكل بحت وكامل بالرجوع إلى القوانين الطبيعية فقط. وهذا وضعه في مواجهة جميع الغائيين الذين وجدوا ملجأً نهائيًا في الخلق الإلهي والسيطرة الإلهية."